اعتمدت الدراسة نموذج هاندي 'Human And Nature DYnamical' model اختصاراً (HANDY) ، ولاحظت الدراسة أن جميع الحضارات السابقة مثل الحضارة الرومانية وحضارات كثيرة نشأت في العراق والشام واليونان والهند والصين... جميعها كانت تبدو مزدهرة جداً، ولكنها في الواقع كانت هشة وسقطت بسهولة وسرعة غير متوقعة.
إن التوزيع غير العادل للثروة بين أفراد المجتمع يؤدي لفارق كبير بين قلة من الأغنياء تتحكم في مصادر الثروات وبين عدد كبير من عامة الناس لا يكادون يملكون شيئاً.. فتحدث المجاعات وتدمر المجتمع بكامله ويحدث الانهيار فيقضي على الفقير ويتبعه الغني... أي الكل هالك لن ينجو إلا القلة القليلة...
لقد انهارت الحضارة الرمانية وحضارة المايا بسبب تركز الثروة في يد النخبة القليلة التي كانت غافلة عن المصير الأسود الذي ينتظرها. ولكن يمكن إنقاذ أي حضارة من الانهيار بإجراء بسيط جداً وهو أن يتبرع الغني بشيء من ماله للفقراء... واتباع أنظمة تؤدي لعدم الاستغلال والاحتكار ..
وكذلك إلغاء الكثير من الظواهر الضارة مثل الربا والربح الفاحش والغش وأكل مال الآخرين بغير الحق ... وتنبيه الشركات ورجال الأعمال والحكومات لخطورة الاستمرار في سياسة التوزيع غير العادل للثروة... وهذا سيعيد بناء المجتمع على أسس عادلة تؤدي لتفادي كارثة الانهيار.
صورة لموت نجم... هكذا يبدو من بعيد بعد انهياره، حيث لا يمكن لأي نجم أن ينجو من هذا المصير!! ويؤكد العلماء أن النظام على الأرض يشبه النظام في الكون، فكما أن النجوم تنهار كذلك الحضارات تنهار بنفس الطريقة.. الأعاصير تدمر المناطق الآمنة بشكل مفاجئ كذلك السقوط المفاجئ للأمم يمكن أن يحدث بشكل مفاجئ نتيجة الظلم. مصدر الصورة NASA
لقد أقسم الله تعالى بظاهرة انهيار النجوم أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [النجم: 1-2]، وبالمقابل أخبرنا أن كل من يعصي الله تعالى سوف ينهار ويهوي، قال تعالى: (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) [طه: 81]، وتأملوا معي كلمة (هَوَى) التي وردت في كلتا الحالتين.. وهذه إشارة إلى التشابه بين عالم النجوم وعالم البشر، فالكل له نهاية حتمية.
لقد طبق الباحثون نموذج HANDY على الولايات المتحدة الأمريكية ولاحظوا وجود خلل كبير في توزيع الثروة واستهلاك الخيرات وطريقة قيادة المجتمع وتوقعوا بأن انهياراً ما سيحدث وأنه لا يمكن تفاديه إن لم تتم معالجة الخلل الأساسي في الحضارة.
كيف أخبر القرآن عن ذلك؟
كثيرة هي الآيات التي أخبرت عن أمم وحضارات أهلكها الله تعالى بسبب الفساد والظلم والانحراف عن طريق الله تعالى.. يقول تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ) [الأنعام: 6].
لقد أكد القرآن قبل أكثر من أربعة عشر قرناً أن سبب الهلاك هو الظلم وأن انهيار الأمم لا يحدث إلا كنتيجة للظلم، قال تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]... إذاً مقياس بقاء الأمم هو الإصلاح، فالإصلاح هو الوسيلة المثلى للحفاظ على الحضارة.. وإن أي نظام يعتمد منهج الإصلاح سوف يستمر طويلاً، بعكس الأنظمة التي تعتمد الظلم والاستبداد حيث تهوي بشكل مفاجئ في الغالب.
هناك آية عظيمة تؤكد إمكانية التنبؤ بزوال الأمم وأن هناك قانوناً رياضياً يمكن من خلاله معرفة مدة كل أمة على الأرض.. ومع أن هذا القانون موجود ولكننا نجهله حتى الآن.. يقول تعالى: (وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ * مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ) [الحجر: 4-5].
أي لكل أمة من الأمم وقت محدد لا يمكنها أن تتفاداه... هذه الآية طرحت فكرة موت الحضارات، وهذه الفكرة جديدة لم تكن معروفة من قبل، حيث اعتبر القرآن أن لكل أمة أجلاً تماماً كما أنه لكل إنسان أجل محدد يموت بعده...
دائماً وكما تقول الدراسة العلمية أن سبب هلاك الأمم هو القلة القليلة التي تمتلك المال والثروة وتتركز فيها معظم ثروة البلاد.. ولذلك فإن هذا الخلل وعدم التوازن سيؤدي في النهاية للانهيار... والعجيب أن القرآن أشار إلى هذه الحقيقة بشكل مذهل في قوله تعالى: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا * وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا) [الإسراء: 16-17].
وهنا نلاحظ أن الله تعالى تحدث عن المترفين (أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا) أي النخبة القليلة من الأغنياء التي تتحكم بمصادر الثروة في البلاد، هي التي تكون سبباً في الهلاك ولكن بعد الظلم والفساد وأكل أموال الناس وخلق فجوة هائلة بين الغني والفقير.. أي أن الهلاك والدمار له شرطان وجود قلة قليلة تملك معظم الثروة ووجود الظلم والفساد.. هذان الشرطان هما سبب انهيار الحضارات.. هذا ما قرره القرآن في القرن السابع .. وهذا ما وجده العلماء عام 2014 !!!
ولذلك فإن القرآن الكريم يذكرنا دائماً بهلاك الأمم من قبلنا وأن هذا الهلاك هو معجزة وآية من آيات الله ينبغي على كل من لديه عقل أن يتفكر فيها.. قال تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى) [طه: 128]... تأملوا كيف يذكرنا القرآن بمصير من سبقنا لنأخذ العبرة.. وهو تذكير للحاكم والمحكوم أن يتقي الله تعالى وينظر لمصير من سبقه من الجبابرة.. ولكن المسألة تحتاج لعقل حكيم.
كذلك يقول تعالى مؤكداً أن الترف الزائد وإنفاق المال بشكل جنوني على أشياء تافهة كما يحدث اليوم في الولايات المتحدة سوف يؤدي للانهيار: (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 58]... آيات كثيرة جداً تتحدث عن هلاك الأمم والحضارات من قبلنا، وكأن الله تعالى يريد أن يرسل لعباده رسالة خفية يريدهم أن يبقوا في حالة تذكر لمشاهد الانهيار... وهذا يؤثر في نفس الإنسان ويجعله في حالة خوف من المعصية وتذكر لله تعالى..
علماء النفس يؤكدون أن الإنسان عندما يخاف من شيء فإن دماغه يرسم صورة قبيحة لهذا الشيء مما يؤدي تدريجياً إلى الامتناع عن فعله.. ولذلك يضعون على علب السجائر بعض الصور المرعبة لسرطان الرئة والفم واللسان... مما يثير في نفس المدخن الخوف من التدخين ويمكن أن يكون سبباً في الإقلاع عنه.
وهذا ما يفعله القرآن حيث نجد الكثير من الآيات تذكرنا بمصير الأمم من قبلنا والتي أهلكها الله تعالى بذنوبها وبسبب إفسادها في الأرض وظلم الناس... وهذا من إعجاز القرآن أيضاً، فالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم لم يكن لديه هذه العلوم النفسية ولم تكن مكتشفة أصلاً، حتى يستخدمها في القرآن.. وهذا يدل على أن القرآن ليس من تأليف بشر بل هو كرم رب البشر سبحانه وتعالى.
وإليكم بعض الآيات وهي كثيرة وجميعها تذكرنا بالأمم الهالكة من قبلنا.. قال تعالى: (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ) [السجدة: 26]. ويقول أيضاً: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ) [يس: 31]...
كذلك فإن الترف والغنى الفاحش والإسراف ... كل هذه عوامل تسرع عملية السقوط والانهيار، قال تعالى: (ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) [الأنبياء: 9]... دققوا معي في قوله تعالى: (وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) كإشارة إلى خطورة الإسراف في المال كما يحدث في كثير من الدول حيث ينفقون المليارات على مشاريع من أجل الرفاهية والمتعة وإشباع رغبة الأغنياء.. وتجد في الجانب الآخر من يموت جوعاً..
ملاحظة مهمة:
صدرت الكثير من الأبحاث التي تتنبأ بنهاية أمريكا وحددت تاريخاً لذلك، ونود أن ننبه الإخوة القراء أن كل التواريخ المحددة لا تقوم على أساس علمي، أي حتى هذه اللحظة لم ينجح الباحثون في تحديد نهاية أي حضارة بشكل دقيق.
ولكن يمكن القول بأن الحضارة الأمريكية مثلاً سوف تنهار خلال عشرات السنين القادمة.. وقد يحتاج الأمر إلى بعض العوامل لتسريع عملية الانهيار مثل كارثة كونية (نيزك يضرب قارة أمريكا مثلاً) أو كارثة طبيعية (موجات تسونامي أو زلازل..) أو كارثة مناخية (مثل الجفاف أو عصر جليدي مفاجئ... أو غير ذلك)...