لأنّ كلّ صاحب فكرة أو أطروحة, يحتاج إلى إسلوب حواري موضوعي في ترويج فكرته, وفي دعوة الناس إلى قبول أطروحتـه والتسـليم لقناعاتـه.
وعلى هـذا الأساس بنى رسول الله r حركته الرسالية في واقع المجتمع الجاهلي المشرك, وذلك وفقا لما رسمه له القرآن الكريم من خطوط للحوار الموضوعي, وهي – أي هذه الخطوط – كما يلي :
أ - توفير أجواء الحريّة للرأيالآخر: وتنقية المناخ الذي يجري في نطاقه الحوار من المواقف والآراء المسبقة, ليشق الحوار طريقه نحو النتيجة المرتقبة.
فينبغي أن تكون الأجواء فارغة من المواقف والآراء المسبقة, التي تعترض طريق الحوار, وتشكل عاملا للضغط على حريّة المحاور, فلو افترض طرف من المتحاورين نفسه أمام خصمه أنه على الحق والصواب, فقد صنع حاجزا نفسيا أمام حرية الطرف الآخر.
لذا أرشد الله عزّ وجل رسوله الكريـم r أن يطرح قناعاته برأيه جانبا, وأن يوحي لخصمه بشكه في ما يتبناه من رأي أو موقف, حتى يثبت الهدى والحق من خلال الحوار القائم على أساس الحاجة للوقوف على الحقيقة من أي طرف كانت, فقال تعالى : (قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) [سورة سبأ / الآية : 24]
ب - تواضع المحاور أمام خصمه : ليملك الخصم حريّة الحركة الحواريّة, ولا يشعر بأنه مسحوق تحت عناوين واعتبارات أخرى, قد تكون عناوين عملاقة تمسك بيدها سوط الإرهاب الفكري ضد الخصم, لذا يعلمنا القرآن الكريم, كيف دخل رسول الله r في خضم الحوار مع أهل الكتاب والمشركين, وهو في غاية التواضع والتنازل عن كل العناوين التي قد توحي لهم بالتعالي عليهم.
فكان يمكنه r أن يتفاخر عليهم بالجاه والقوّة والمنصب والعلم والفهم, ولكنه راح يؤكد لهم بشريته بصفتها الجامع المشترك بينه وبينهم, سوى فرق واحد وهو (الوحي), الذي لم يعرضه في مقام التفاخر, بل في مقام لفت النظر إلى قيام الحجّة عليهم, وإلا لما أكد لهم ضعفه أمام كلّ العوارض والطواريء التي تضعف أمامها الطبيعة البشريّـة.
كما أرشـده القرآن الكريم, فقال تعالى : {قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لأستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون}[سورة الأعراف / الآية : 188] وقال تعالى : {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [سورة الكهف / الآية : 110]
ج - التجرّد عن التبعيّة العمياء : أي : أن يكون الحوار بعيدا عن المؤثرات الإنفعاليّة التي لا تدع المحاور يتحرك في إطار رأيه الخاص, بل تفرض عليه التبعيّة أن يتحرّك في إطار العقل الجمعي وتحت تأثيره.
وقد أرشد الله تعالى رسوله الكريم r أن يدعو مجتمع الجزيرة, الذين تفشت فيهم ظاهرة التبعيّة العمياء, أن يقوموا لله مثنى وفرادى, ويتجرّدوا عن الجوّ الإنفعالي العام, ثم يتفكـّروا في آرائهم ومواقفهم تجاهه.
فقد قال تعالى : {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ : الآية 24].