يقال أنه يوجد في جسم الإنسان أكثر من 600 عضلة مخططة أو هيكلية -بخلاف العضلات الملساء المنتشرة في سائر البدن- منها الكبير كعضلة الفخذ، ومنها الصغير كعضلات الوجه والعينين. ولكن تبرز من بينها عضلةٌ صغيرةٌ نسبياً تتجلى فيها عظمة الله، ألا وهي اللسان، واللسان وإن كان صغيراً جرمه إلا أن له مقاماً عالياً بين أعضاء الجسم سواءً من الناحية العضوية أو الناحية المعنوية، فتعالوا لنتجول في عالم اللسان العجيب.
اللسان من الناحية التشريحية عضوٌ متخصص يشغل وسط الفم إلى مدخل البلعوم بين اللحيين، ويتعلق بالفك السفلي والعظم اللامي بسبعة عشر عضلة تعمل على تحريكه، وعلى غشاءٍ مخاطيٍ يغلفه وبه مستقبلاتٌ خاصةٌ لحاسة الذوق، وله عصب خاص لتحريكه في كل نصف، أي عصبان حركيان رأسيان، وله ستة أعصابٍ حسية (ثلاثةٌ في كل جانب). وهذه الأعصاب تنتمي إلى مجموعة الأعصاب القحفية (Cranial Nerves) والتي تتكون من 12 زوجاً من الأعصاب فقط، تخرج من المخ إلى العضو الذي تغذيه مباشرةً أو تعود بالإشارات العصبية مباشرةً إلى المخ دون المرور عبر الحبل الشوكي، وكما هو واضح فإن اللسان يستأثر لوحده بنصيب الأسد منها (الربع). أما من الناحية العضوية (الفسيولوجية) فإن اللسان يلعب دوراً مهماً، فهو عضوٌ متخصصٌ بإحدى الحواس الخمس وهي الذوق، وتستطيع مسقبلات الذوق التي على سطحه تمييز الحالي والمالح والمر والحامض. ويتفرع من هذه المذاقات اشتقاقاتٌ كثيرةٌ حسب امتزاجها بنسبٍ مختلفة. وتستطيع براعم التذوق الموجودة على سطح اللسان أن تمييز الطعم ولو كانت جزءً واحداً من بين مليوني جزء من المحلول. ويمتزج الإحساس بالطعم والرائحة والقوام في النكهة. وتوجد براعم التذوق في الحلمات اللسانية المنتشرة على ظهر اللسان ويقدر عددها بعشرة آلاف حليمة، وفي كل حليمة ما يقارب 250 برعم ذوق.
كما يضطلع اللسان بوظيفة النطق والكلام، حيث يشترك مع الحبال الصوتية والشفتين في تشكيل هواء الزفير المندفع من الرئتين لتكوين حروف وكلمات مفهومة. والنطق من النعم التي تميز بها الجنس البشري وإحدى ركائز الاتصال وبه قامت الحضارات. ونظرا لدور اللسان المهم في النطق سمى الله تعالى اللغة لساناً، فقال تعالى: (وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم) إبراهيم 4.
كما يلعب اللسان دوراً مهماً في هضم الطعام، حيث يعجن مضغة الطعام ويخلطها باللعاب ويقلبها أثناء المضغ من جهةٍ إلى أخرى. وهذا يعطي الإنسان لذةً بالأكل. ثم بعد مضغ اللقمة يلعب اللسان مرةً أخرى دوراً مهماً في البلع وقذف اللقمة إلى البلعوم ومن ثم يدحاها في المريئ بعد أن يغلق فوهة القصبة الهوائية كي لا يشرق الإنسان أو يغص عندما تذهب اللقمة أو الشربة إلى طريق النفس.
ويضيق المجال تتبع وظائف اللسان، وإعجاز الخالق فيه, كشدة ودقة حاسة اللمس فيه، واحتواءه على عقدٍ لمفاوية (لوزات اللسان) وغيرها الكثير.
أما مكانة اللسان المعنوية فخطيرةٌ جداً، حتى أن الله وكل به ملكاً خاصاً له: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيبٌ عتيد) ق 18. وحتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: (من يضمن لي مابين لحييه – اللسان- ومابين رجليه –الفرج- أضمن له الجنة) متفقٌ عليه. وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بطول حبسه فقال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) متفق عليه. ولما سأله سفيان بن عبدالله –رضي الله عنه- عن أخوف ما يخاف عليه، أخذ بلسان نفسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: (هذا) رواه الترمذي وقال حديثٌ حسن صحيح. وفي حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- المشهور قال صلى الله عليه وسلم في آخره: (ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟) قال معاذ: بلى يارسول الله، فأخذ بلسانه فقال: (كفّ عليك هذا)، فقال معاذ: يارسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: (ثكلتك أمك! وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم؟) رواه الترمذي وقال حديثٌ حسن صحيح. وألا يستحق اللسان أن يدعى “سيد الأعضاء” والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان – أي تذل وتخضع له- تقول: (أتق الله فينا، فإنما نحن بك: فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا) رواه الترمذي، وصححه ابن خزيمه.
ولعظم قدره جعله الله أول الشاهدين على أصحابه: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون) النور 24. وامتن الله على ابن آدم: (ألم نجعل له عينين ولساناً وشفتين) البلد 8-9.
قال زهير بن أبي سلمى:
وكائن ترى من صامت لك معجب … زيادته أو نقصه في التكلم
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده… فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وقال الشاعر العباسي الخُبز أَرزي:
لسان الفتى حتف الفتى حين يجهلُ … وكلُّ امرئٍ ما بين فكَّيه مقتلُ
إذا ما لسان المرءِ أكثر هذره … فذاك لسان بالبلاء موكَّلُ
وكم فاتحٍ أبواب شرٍّ لنفسه … إذا لم يكن قفلٌ على فيه مُقفَلُ
وأخيرا، يقول الشاعر محذراً منه:
احفظ لسانك أيها الأنسان … لا يلدغنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه … كانت تهاب لقائه الشجعان