علاقة إنسان الطاسيلي ببيئته:
تركت الشعوب التي تعاقبت على منطقة الطاسيلي الكثير من الآثار منها مادة غزيرة من الفخار، غير أن الرسوم الملونة و النقوش الصخرية الكثيرة والمجسدة على جدران الكهوف هي التي صنعت الشهرة العالمية للطاسيلي ابتداء من عام 1933 تاريخ اكتشافها من طرف الملازم الأول الفرنسي "برينانس" ، وهناك أكثر من 15000 رسم و صورة تم إحصاؤها إلى يومنا هذا .
تمتد هذه الرسوم عبر الزمن حسب عدة فترات أو عهود تعكس كل واحدة منها حياة حيوانية معينة تتميز بنمط مختلف وهذه الفترات هي:
1- الفترة الطبيعية (Naturiste): وهي الأقدم وتعود إلى فترة العصر الحجري القديم:
2- الفترة المسماة بالقديمة أو العتيقة: الحيوانات المرسومة في هذه الفترة كثيرة جدا وتتناسب مع مناخ رطب.
3- فترة رعاة البقر: تمتد هذه الفترة من 4000 سنة قبل الميلاد إلى 1500 سنة قبل الميلاد، وهي الأهم من حيث عدد الرسوم المحفوظة التي تتميز برسوم للأشخاص وقطعان الأبقار، ومشاهد من الحياة اليومية.
4- فترة الخيول: تغطي الفترة نهاية العصر الحجري الحديث وهي تصادف اندثار العديد من الأنواع الحيوانية بسبب الجفاف كما تتميز بظهور الحصان(رسوم لخيول متوحشة وخيول مستأنسة موصولة بعربات).
5- فترة الجمال: بدأت في القرون الأولى من العهد الميلادي تتصادف مع ظهور الجمل.
تملك الحيوانات والنباتات هنا خصائص تميزها عن غيرها وهي تعود إلى فترات ما قبل التاريخ عندما كانت منطقة الطاسيلي أكثر رطوبة بكثير مما هي عليه الآن، ففي هذا الوسط عاش أناس وأنواع مرتبطة بالماء مثل الكركدن وأنواع مندثرة من المنطقة منذ بضعة آلاف من السنين مثل الجاموس، الفيل، وحيد القرن و الزرافة، كما تشهد وتدل على ذلك النقوش والرسومات.
كما أن هناك العديد من الرسوم الصخرية التي تدل على ممارسة الزراعة في منطقة الطاسيلي، ففي منطقة صفار (Safar) جسّدت الرسوم مجموعة من الأشخاص يحملون نوعا من القصب الطويل بشكل مذراة، وربما هم يقومون بذر الحبوب لأن أسفل هذا الرسم يوجد أشخاص كذلك جالسون يقومون بدرس الحبوب على أرجلهم(27)، ومشهد ثاني يمثل رجلان منهمكان في خدمة الأرض،(28) علاوة على هذا هناك مشهد آخر في منطقة جبارين يمثل نساء يضعن أقنعة برؤوس الطير ويحملن سنابل، وهو مشهد ربما يوحي إلى تقديس الإنسان لربّات الزراعة(29)، كما أننا نجد في منطقة أونرحات (Oinarhat) مشهدا آخر يبين أشخاصا يعملون في الزراعة، ومشهد آخر كذلك في نفس المنطقة يجسد أربعة أشخاص، ثلاثة منهم يعملون في الأرض والرابع يوضّح لهم طريقة العمل(30).
ونجد في الفن الصخري الممثل في الرسومات العديد من المشاهد التي تعبر عن البيئة الطاسيلية نذكر منها:
- رسومات تمثل راقصين في منطقة جبارين ويضم المشهد ما يقارب من 20 شخصا يضعون أقنعة وهم ينظرون إلى السماء، مما يدل على طقوس استدرار المطر واستعطاف الآلهة من اجل خصوبة الطبيعة واخضرار الأرض(31).
- مشهد في تين تتزاريفت (Tin Tazarift) ويجسّد ستة أشخاص يرقصون ويحملون أدوات يجهل حقيقتها، وفي أسفل المشهد تظهر صور حيوانات غير مكتملة(32).
- مشهد في جبارين (Djebarine) يمثل محاربون يصطحبون قبيلتهم وماشيتهم في رحلة بحث عن الماء والكلأ(33).
- مشهد في أوزيناري (Ozéneare) ، يمثل كذلك مجموعة من الرّماة في عملية بحث عن المراعي والعيون، حيث يشير الشخص الذي في المقدمة بيده إلى الأراضي من بعيد.(34)
- مشهد في تمنزوزين (Timenzouzine) ، يمثل مشهدا لمجموعة من الصيادين يهاجمون الحمار الوحشي.(35)
وكذلك الأمر بالنسبة لرسومات منطقة الفينوسات (Vénus) ، حيث يحلل الباحث مارسيا الياد علاقة إنسان الطاسيلي بالأرض من خلال هذه الرسوم بأنها علاقة مجسدة بالخصوبة، وأن خصوبة الأرض متضمّنة بالخصوبة النّسوية، فالحقل مثل المرأة، والعمل الزراعي أصبح يُمثَّل بالفعل الجنسي.(36)
أما الشواهد الصخرية المتعلّقة بالإنسان والحيوان فهي كثيرة، فرغبة الصياد في تكاثر الحيوانات دفعته إلى عبادة بعضها، وتدل مشاهد القطعان الكبيرة على النماء والزيادة، ومن بين هذه المشاهد رسومات منطقة تيكادودوماتين (Tekadedoumatin) ، حيث جسد النحات مشهدا من الرّعاة يجتهدون في جعل الأبقار تأتي في خط واحد(37) ، كما نجد رسومات لأبقار ذات أثداء كبيرة في تين تزاريفت تدل على الخصوبة، ومشاهد أخرى في إيهرن (Ihran) تمثل قطعان كبيرة من الأبقار والأغنام، ورسومات أخرى تعبّر عن التكاثر الحيواني كما هو مجسّد في منطقة انالودمان وإيهرن.(38)
وقد اصطاد صيادو الطاسيلي بعض الحيوانات البرية كالغزال والثيران وحيوانات أخرى بواسطة السهام والنبال، استطاعوا استئناس بعض منها، فمعظم البقايا الحيوانية التي عثر عليها في المنطقة تنتمي إلى أنواع مستأنسة من الأغنام والثيران والكلاب، غير أننا لا نستطيع أن نجزم أن جميع هذه الحيوانات قد استأنست استئناسا كاملا.
كما طور رعاة البقر الطاسيلي طريقة لتربية الماشية، كانت تدهش دائما من لا يعرفها، إذ يبدو أن الحضارة البقرية قد بلغت في ذلك العهد أوجها فاكتسبت فنا راقيا يتعلق بطرق تربية الماشية التي تتطلب تعلما طويلا(39).